ياصاحبي، كيف أخذَّ
ينهشك الحُزن بهذه الطريقة المُوحشّة؟ بدأت كلماتك مُتعبًا مُرهقًا، وأشارت لنّا
سطورك بأنّ الحياة لا تساوي شيئًا حتّى وصلت بنَا إلى النهاية المؤكدة لذلك.
فكيف فعلت بنّا ما فَعلّت
دونّ أنّ تأخُذّكَ بنّا شفقة أو رحمة أم هما الحياة والموت اللذان أثقلانا كما
أثقلاك.
كانت روايتك في
بدايتها شهية، تشدنا إليها كما شدت واثق وسمية وجمال وسليم وأم واثق ومنى، إلى
طريق الموت لا إلى طريق الحياة.
كانت كلماتك عذبة
شديدة التأثير على النفس لا تجعل من يقرأها يتوقف عنها، فأنا لم أكن أستطع التوقف
مهما رغبت في ذلك بل مرضك بالرؤيا قد أصابنى، وحلمت بكلماتك، فكنت كمن وجد ينبوع
ماء متفجر في جوف الصحراء بعد أن ظل يبحث في كل مكان حوله عن من يحدثه بحديثك
العذب.
يا صديقي فقد كانت
كلماتك ترسم لي لواحات الينبوع والكهف ومعركة الذئاب ووادي القمح ببراعة بالغة،
بل إنها أعطت اللوحات ألوانها الزاهية تارة والباهتة كما كانت على طبيعتها
المفجعة تارة أخرى.
فقد دق قلبي معك
عندما واجهت الأفعى سُمية وكنت أشاهد المعركة بقلبك وعينيك وكأنى كنت أنا من يذوق الخوف،
لا "واثق"، وصرت أتحدث إلى ذاتي كما فعلت وعندما اشتد بي الحال شخصت
حالتي المرضية بالذهان، فأكتشفت إنك قد لبستني كأنك شبحًا، بل أن واثق قد امتزجت
روحه بروحي، فأنتقل لي كل ما يحمله من آلم بالحياة، وصرت أصمت كما كان يفعل هو.
شعرت بدقات قلبي
المجحفة والتي قد فارقتني منذ أمد بعيد، بغير رجعة رغم إني أملك حبيبًا.
قد عادت إليّ الحياة،
كما فعلت معك، فى تلك الليلة التي أدمعت فيها السماء فرحًا برؤية "منى"،
وأشفقت على حالي عندما وجدت منِي كل هذا الجفاء لمن أحب، وتقابله أنتَ بكل هذا
الشوق والولع لمن أحببت.
شعرت إن رسائلك المخبئة
بين السطور تداعب قلبي المقحل، وتذيب الدمع الجاف في عيني، نعم فقد أبكيتني بتلك
الرسائل، حبًا وأذبتني شوقًا ولوعًا، وجعلتني أتخلى عن كبريائي في أشد اللحظات
قحطًا بحياتي، لعلني ألحق ما فاتني من لحظات عشق عابرة إلى طريق الموت بغير رجعة.
أثقلتني ياصديقي
بلحظات السجن فكانت رسائلك الأحادية التى تذهب من دون رد من "منى"، تمزق
فؤداي، وتدفعنى إلى الجنون والتساؤل.
ألم تشتاق هى أن تكتب
له كما يفعل؟
ألا تحبه كما يفعل؟
وإن كانت تعشقه، ألا
يستحق منها رسالة واحدة لتبل ريقه الذي جف من الظمأ؟ فمتى ينزل القطر على الغريب
المحطم؟
جعلتنى أظلمها
بهلاوسى، في بدء الأمر جعلتني أشتاق لعينيها ولا أكتفي بتلك الزيارات البعيدة في
السجن من خلف الزجاج، شعرت في لحظات كثيرة برغبتي في تحطيم هذا الحاجز الزجاجي بينهما
خصوصًا عندما بدأ الموت في اقترابه منها، كنت أراه يتلمسها ويشتم رائحتها، دون
عن واثق، شعرت إنه سيضاجعها دون أن يفعل واثق.
جعلتني أمقت الحياة
كما فعل لؤي، وأشعرفي بعض الأحيان بلوث يمسني كما فعل بسليم.
جعلتني أشعر بالآسى
لحظة فراق الجميع بالسجن، وأشعر بشدة الآلم في معدتي يقطعها كما فعل بواثق.
جعلتني في كثير من
الآحيان أشعر بأني أقترب من الموت معك وأحبس أنفاسي لاستعد لمصيري المحتوم، بين
سطورك.
اتعلم إني مقت
التفجيريين وتعاطفت مع الحشاشين حتى بعدما أخذوا سليم من واثق، اتعلم شعرت باليأس
وقتها، اليأس الذي أصابهم فجعل مفرهم إلى أفعال نمقتها نحن.
لا تستغرب من حديثي
يا صديقي فربما نحن أقوى منهم بكثير، ألم تقول أننّا "نحمى أنفسنا من
الموت بالقراءة، كان الكتاب الذي نحمله في اليد هو تعويذة النجاة من الموت. الذين
لا يرافقهم الكتاب منسيون، من يريد أن يرافق الموتى؟ والموتى لاتتسع قبورهم إلا
لهم، فلماذا يُصر الواحد منّا على أن يحشر نفسه معهم بإقصائه للرفيق الأعذب:
الكتاب!"
ألم تتفق معي أن
عذاباتهم كانت في البعد عن الكتاب.. حتى التفجريين فقد أشفقت عليهم، فهم أختاروا
رفقاء السوء من الكتب بدلًا من أن يختاروا مثلنا المنمقين بالمظهر والجوهر.
يا صديقى أثقلتني
رسائلك المئة وجعلت الخوف يدب في صدري ويأخذ من جوفي مكانًا لا يبرحه وأن أراد
تذكرت ليلة الذئاب وكيف كان الموت يحوم من دون رحمة؟ وشعرت بعذاب الذئاب قبل أن
تشعر هى بها فقد خرج قلبى في كل مرة يخرج فيها سهم أباك من جعبته ليستقر بأعين تلك
الذئاب المسكينة.
يا صديقى كنت أتلمس
العذر لأبيك في أنه يطعم بصيده الوفير أهل القرية، رغم أني كنت أكره تلك اللعبة
الدامية الصيد، والتى أرى فيها تشفيًا غريزيًا يتوجه دائمًا الموت.
يا صديقي في رسائلك
المئة شعرت بالضجر من طول الوقت، رغبت في أن أطوى الصفحات سريعًا لأشهد لحظة التقاء
أعين "واثق" و"منى" كما كانا يرغبا، إلا أن الملل تمكن مني
وشعر بالراحة في صدري، وكأنه وجد بيتًا مريحًا له بين أضلاعي المسكينة بضعفها، بل
ولم يكتف بذلك فصار يثقل كاهلي، كلما قرأت سطرًا جديدًا من تلك الرسائل الطويلة
التى بحثت بين سطورها عن الحرية، كما ألتهمت العشق والشوق.
ضقت بك ذرعًا يا صديقي
من اختياراتك المجحفة، بدءًا من الفلسفة ثم العلوم ثم الثورة، ولم يكن لدي وسيلة
لأوقف تلك الخيارات لأنّها كانت تشبهني كثيرًا.
وجدت غايتي في تلك
الخيارات وسلوتي المهجورة إلا إني رغبت بشدة أن تستطر غيرها لأحيا لساعات قراءتي
لربعمائة وتسع صفحة بعيدًا عن هُوايتي، وشتان ياصديقي بين الرغبة والواقع.
فحقًا "إنها الأقدار، حظ الناس من العيش لم يكن
يومًا بأيديهم، نحن لا نرسم حياتنا كما نهوى، نحن نمضي في الدروب التي رسمت، فحاول
أن تحيا ما كان قد أعد لنا مسبقًا.
واجه كل الفجائع بالرضى، هل نحن إلا ما نرضى!! السخط لن يُغير في القدر،
والراحلون قدرهم ألا يؤوبوا من رحلتهم".
أملك الكثير من الحديث في جعبتى إلا أن العبارات
ليست في أبهة حِلّةٌ لها الآن فقد فقدتها منذ زمن سحيق، ربما ذهبت في ليلة الذئاب
خاصتي، وإن كانت لديّ فأنا لا أستطيع مجارتك فيها، فأنت المحب العاشق الهائم، المذبوح...
الجائع إلى الكلمات التي تملكها أكثر مني".
وإن استخدمتها أنا فقدت
التسلسل والحبكة والأبطال وربما أيضًا توهت في اختيار النهاية أما أنت..
فأنت أكثرة جراءة مني
فتعرف طريقك وتخطو له واثقًا غير مترنحًا، تملك الخيط من أوله وتستطيع أن تربط به
أبطالك جميعًا تستطيع أن تجعل لكل منهم مكانًا بين سطورك دون أن يشعر بصغره فهو
بطل لا يمكن أن يخلو المكان منه، ولا يمكن أن نصل إلى الحبكة من دونه، اخترت
أبطالك الصامتون بعناية، وعندما أعلنت عن لحظات حديثهم جعلتنا نسمع لهم بشغف، لم
تجعل لنا الوقت للسؤال عن حقيقة ما يقولون صدقناهم وبكينا مع كلماتهم، وابتسمنا في
لحظات أخرى، ولكنك يا صديقي أثقلتنا بالهموم، ولم تجعلنا نُفلت منها، حتى النهاية.
لا أستطيع التوقف عن
الحديث معك، عنك، وعندما توقفت للحظات جعلتنى أسأل كل من حولي هل قرأت "ذائقة
الموت"؟
وحتى قبل أن أبلغ سطور
النهاية، جعلتني أطلب من الجميع قراءتها وأحذرهم من كأبتها التي تَحُوم في سمائها،
ومن جدران السجن الذي سيخطون إليه قرائك برغبتهم، ومن تلك الروح المحطمة والممزقة
التى ستملكهم.
جعلتني أحذرهم من
الموت في كل مرة يموت فيها بطلًا جديدًا من روايتك، وأخبرهم عن الحب والدفىء الذي
سيجدونه بين أبطالها عندما يتعرفون عليهم.
ودعني أخبرك سرًا،
فقد بحثت بين السطور عن حب زوجة عمك لك كثيرًا وفشلت فى إيجاده.
أتعلم إني لم أقابل
جدتي ولكني شعرت بلقائها عندما قابلت جددتك أنت، وتذكرت حديث صديقتي عن جددتها عند
وفاتها، وكل هذا الحب الذي كانت تملكه فى سُرتّها للجميع من أحفادها.
صديقي العزيز، سأحاول
أن أتوقف عن الحديث عن أبطال روايتك وأخرج من الموت للحياة، وأبحث عن الحرية في
سطور أخرى سطرتها دون خوف وبشجاعة أكسبتها لك الطبيعة والعائلة الممتدة.
أشكرك على ما قدمته
لى فقد علمتنى أن: "ما الجسد إلا ورقة فى ربيع يمضي مُخلفًا وراءه خريفًا
مُفندًا".
وأني
ينقصني الكثير حتى أتحول إلى قديسة تتخذ من الحب محرابًا لتصلى بين عيون معشوقها
دونّ أن تفقد إيمانها بخالق الحب والنور والموت".
تعليقات
إرسال تعليق